العدد الخامس لعام 2014
زهرةُ المدائـــــنِ
القاصّة نجيبة بوغندة
زهرةُ المدائـــــنِ
(نجيبة بوغندة)
عادَ إلى منزله راكضا يملأ الانشراح صدرَه
الصّغير يَحدوه أملٌ رسمته له نتائجه الباهرة بعد أن تسلّم اليومَ بطاقةَ أعداده
.
كان كالفراشةِ في ألوان أحلامه البادية
على وجنتيه المتورّدتين بألوان تلك الأحلام التي يراها تبدو قادمةَ من و راء تلال وطنه
فلسطين .
_ سأصيرُ مهندسا يا أمّي بإذن الله ... سأجعل
من وطني زهرةَ المدائن .
_ ستكون صرحا يزيّن جبينَ بقيّة المدائن يا
ولدي ... ستكون زهرةً يضوع عطرها أينما انتثر .
ألقى محفظته على عتبة الدّارو قال
:
_ سأخرج لأدفع ثمن هذه الزّهرة الغالية
... لا تجزعي سأعود بسرعة يا أمّي ...
_ لا تُبطئ يا جهاد فغداؤك جاهز و هديّة نجاحك
بين جنباتي ترقُبك .
تناهى إلى سمعها صوتُ الباب يُطبقُ و صدى
قهقهاته يتردّد في ردهات المنزل لكنّها لم تسمع منه كلمةً .
أطلّت برأسها المسكون بالخوف الدّائم ؛
خوف الأمّ على فلذة كبدها تشتاق إليه في كلّ لحظة شوقا يفوق التّصوّر ، لم تجده ، فعادت
تكمل شؤونها و قد تغيّرت سحنتها و توارت بسمتها الرقيقة و تكدّر خاطرها
.
انتظرته ساعات طويلة تدفع كوابيس عن مخيّلتها
... قرعت الفناء جيئة و ذهابا كمن يُعبّد طريقا ... طال غيابه و طال انتظارها
...
خرجتْ و الهواجس تكاد تقضي عليها تأخذها
كزهرة مفتّتة البتلات و تذروها بين التلال و الصّحاري ... كانت لا تكفّ عن سؤال كلّ
من يعترضها ، تارة بذكر اسمه لمن يعرفه و طورا بوصفه لمن كان عابر سبيل لكنّها تُقابلُ
بالنّفي و إيماءة تقتل أملها...
تاهت بين الأزقّة حتّى رأت جسمه من بعيد
في دمائه يغرق ... جرت نحوه بساقين لا تكادان تستجيبان لها ... جثتْ على ركبتين واهنتين
فوق جثّته المضرّجة بالأحمر القاني تحضنه و من صدرها تُدنيه ... تعتصر بضمّته إليها
ألما و تُسكتُ صرخةَ الأمِّ الملتاعةِ لتدوّي فتزلزل سكون المدائن ... تلك المدائن
التي لم يشأ لها القدر أن ترى النّور على يديْ مهندسها الحالم
...
انحنت تبكيه بدل الدّموع عطرا و تُهديه
بالعطرِ مِسْكا ... لم تكفّ لحظة على لثم جبينه الوضّاح و حضن جسمه المسجّى و تهمس
في أذنه :
_ إنّي أرى زهرةَ مدائنك تلوح و يعلو صرحها
.
_ اهنئي بالا و قرّي عينا يا حبيبتي ... فقد
دفعتُ حياتي ثمنا لها فلا تيأسي فإخوتي من بعدي يكملون بناءها و تشييد صروحها
.
_ أردتُ أن أدخلَ زهرة مدائنك و أنا أتأبّط ذراعك و أمشي مرفوعة الرّأس بذاك المهندس
البارع
انظري حولك فكلّ من في عمري هم ذاك المهندس
الذي تتمنّين مرافقته ... كلّ واحد منهم يحمل في راحته حجارةً ثائرة ... كلّ فرد من
بينهم يرفع مطرقةً و مسمارا مسنّنا يحفر به أخاديد توصله عبر الأنفاق و فوق التلال
إلى ذاك الحلم ...
أعادت النّظر في جثّته النّائمة نوم الملائكةِ
: بسمةٌ تعلو وجهه الصّبوح يكاد النّور يشعّ منه فيغرق الكون في ضوء دائمٍ و عطرٌ يضوع
من كفنه النّاصع بعطر الشّهادةِ و عينان مقفلتان على حلمٍ يسكن القلبَ ينتظرُ صلاح
الدّين ليعيد إحياءه و راحتان صغيرتان تحملان حجرا كأنّه الحنّاء تخضّب كفّيه
...
ابتسمت أمه مودّعة نعشا غادر يحمل عزيزا
، و ألحقت رَكْبه بزغرودة شقّت صمتَ الحزانى تقول بإرادة لا تُقهرُ
:
_ بموتك يا جهاد تُفتح الجراحُ ... سنصبر
و نحتمل أن نمشي فوق الجراح و نقتل فيها الألم و نصيّر من قيحها أملا يطيبُ به عيشنا
في زهرة مدائنك ...
سيعلو صرح زهرة مدائنك ليزيّن أعناق المدن
من حولها ...
ستدقّ أجراس الكنائس و مآذن المساجد ذكراك
و تحفرها في وجدان كلّ زهرة بريّة في مثل عمرك ...
ستُزهر حقول الكرم و تتفتّح نجمات الياسمين
لتُهديك عطرا في عطر مدينتك الخالدة ...
انظر إلى الأكفّ تستعيد مفاتيح بيوتها المهجورة
و ترفع عنها صدأ السّنين و تستعيد الأمل المنشود ...
نم يا جهاد قرير العين و لا تخف على زهرةٍ
لها من أوجه الشبه بين زهور البساتين الشّيءُ الكثير و قد استعارت من طموحك ما يجعلها
تقف في وجه رياح الشمال العاصفة ...
لن يذهب دمك الزّكيّ هدرا فوراءه طُلاّب
ثأرٍ لا تهتدأ نفوسهم حتّى يسترجعوا الحقّ المسلوب ...
سأجعل رحمي أرضا لا تتوقّف عن زرع حبّ القمح
فتنحني سنابلها من ثقل الحبوب ...
أنا أمّك يا عزيزي ، ربّيتك وليدا و حضنتك شهيدا و
أراك سعيدا بزهرةٍ كنتَ تنشدها لترسم البسمة على ثغري لكنّ يد الغدر امتدّت لتقصف زهرة
عمرك قبل أن يرى النور حلمك يلوح بين التّلال ... أعدك يا جهاد أنّي سأثأر لك على طريقتي
التي ستزلزل كيان المغتصب في عقر داره
==========================
ورودي لكم


ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق