بحث هذه المدونة الإلكترونية

الاثنين، 7 سبتمبر 2015

العدد التاسع لسنة 2015 ... أبحاث ودراسات ... قراءة تحليليّة : البناء والتّصوير في ديوان نجاة عبد اللّه : "نعاس اللّيلك" انجاز الأستاذ : البشير الشّيحي , تونس





العدد التاسع لسنة 2015

أبحاث ودراسات

قراءة تحليليّة : البناء والتّصوير في ديوان نجاة عبد اللّه : "نعاس اللّيلك"

انجاز الأستاذ : البشير الشّيحي , تونس







المقدّمة:

يقول ديكارت" أنا أفكّر , إذن أنا موجود" يعني أنّ الفكر علامة دالة على وجود الإنسان ذات فاعلة في الكون تفعل فعلها في التّاريخ باعتبار أنّ الفكر بعد من أبعاده. ويرى الشّاعر أنّ الشّعر وسيلة من وسائل التّعبير عن هذا الوجود مستندا إلى تقنية مميّزة في الكتابة محتفيا بالكون على نحو شعريّ يجمّل القبيح ويقبّح الجميل باعتبار أنّ "أعذب الشّعر أكذبه " أي أن صياغة القول وتصريف المعاني يستندان إلى مهارة , موهبة ورؤيا. هنا تقف الشّاعرة نجاة عبد اللّه وقد تزوّدت بزاد لغويّ بلاغيّ معرفيّ جعلها تفتح مجرى الكتابة لإنشاء عالمها الجماليّ كتابة وارتياد أفق الحلم والخيال دون أن تغرب او تلغز. تسهب, وتومئ, تفصّل وتجمل لأنّها تعشق عمليّة التّركيب فتمضي الى رحاب الكلمة عاشقة تحمل تعبا وحلما , معشوقة تنتظر الشّعر ليجمّل كيانها الإنساني العميق.

الشّكل والتّوزيع:

هو مجموعة قصائد جاءت ومضات و برقياّت ولافتات ورسائل أهدتها إلى روح أخيها عبد الكريم عبداللّه وفاء له وتخليدا لعاطفة أخويّة دموّية جاشت في نبضها فأجهشت شعرا وقد تنوّعت العنوانين فكانت ألفاظا مفردة ( برقيّة, غفوة, لوحة وحشة , زائر , قفص خروج, غصن, خائن, عطر, نعاس , أشواك....) ونحد أيضا اعتماد المركّبات ( فرح شاغر,يقظة التّماثيل, شتاء أخضر, أحلام عازلة , أحلام ملوّثة, رجل يجمع دموع الثّلج...) إضافة إلى الإسناد والجمل التّامة (ماذا فعلت بنفسك؟, يعني أنّها كانت تلتقط اللّحظات الهاربة أو ما هو مألوف عابر لتنجز خطابها الشّعريّ وقد تنوّعت مساربه ودلالته باعتبارها تسعى إلى الإفلات من ركام العاديّ تنبش عنه , تجمّله وان كان مبكيا, مرعبا تجوّده بطريقتها تحضن شتات أحزانها وأوجاعها ترمّم القول وتنتقي له العنوانين . إنّها ترى أنّ العنونة هي مفتاح للقول, لاختيار التّراكيب وانتقاء الصّور .فهي واعية تمام الوعي بعمليّة النّظم والإنشاء متأثّرة بالبعد التّجريبي, التجريديّ فالعنوان في قصائدها يومئ , يأخذ بيد القارئ يوجّهه وأحيانا يربكه, يحيّره. نجدها لا تستقرّ على حال ذلك أنّها تختزل , تكتفي باللّفظ الواحد ليكون سندها وأحيانا تختار المركبّات كي تركّب ما تراءى لها في أفق اللّحظة الشعريّة من همس وغمز , إشارة ولمس .



التّوزيع البصريّ: هندسة الفراغات

بدت الشّاعرة نجاة عبد اللّه تستغلّ مساحة الصّفحة , توزّع جملها الشعريّة حسب الفضاء الماديّ متأثرّة بالفضاء النّفسيّ وذائقتها الشّعريّة التّي تجد في الشّعر الحرّ حريّة التّوزيع والتّشكيل فنجدها تعتمد التّنقيط لسدّ فراغات البوح أو فتح النصّ عن قراءات أخرى, تمنح القارئ فضاء بصريّا مفتوحا لا ينغلق في بنية ثابتة ونجد هذا في أغلب نصوصها وتعتمد أحيانا ترقيم المقاطع من 3 إلى 10 مقاطع وأغلب الأمر 7 مقاطع ( مسامير, غزليّات) باعتبار أهميّة رقم 7 في المخيال الجمعيّ والتصوّر الدّيني و كما تعتمد خصيصة الإجمال والتّفصيل حين ترتّب المقاطع : نصّ (أحلام عازلة) كأنّها توجّه المتقبّل وهو يحاور النصّ راغبا في معرفة العدد وقراءة المعدود. نقف هنا عند عمليّة وعي بالكتابة التّي تمثّل ظاهرة رياضيّة تشحذ الفكر, تنيره وتمنحه فضاء لطرح الأسئلة.فلابدّ من جهد كما لابدّ من قريحة. نجدها تذهب في بعض النصوص إلى توزيع الكتابة يمينا ويسار تمدّ بيمناها كمّا لغويّا , معتمدة التّناوب : نصّ ( هوامش) أيضا لتجعل البصر يتابع النصّ مستسلما إلى بنيته وشكله. فقد نجد في الهامش ما لا نجده في "المتن" وذهبت في آخر الدّيوان إلى قصيدة الومضة في كمّ محترم من النّصوص: (سعادة, قبح, غفلة, خائن, نعاس , ....) فهي معجبة بالتّكثيف والاختزال, تشير أحيانا إشارات غامضة وتنادي في بعض المواطن المتقبّل كي ينخرط في نصّها حاملة إيّاه إلى مدارات رعب أو أكوان فرح.
لقد استطاعت الشّاعرة نجاة عبد اللّه أن تجعل التّوزيع البصريّ لنصوصها يستند إلى هندسة محكمة, جريئة, تعبّر عن حسن تصريف المقاطع وانتقاء العلامة البصريّة الدّالة.



تشكيل الصّور : الغموض والتّجريب :

بدت الشّاعرة نجاة عبد اللّه ميّالة إلى الإيحاء من خلال تكثيف الاستعارة في نسج المشاهد تجعل نصوصها مرتبطة بعالم الخيال فهي تفارق الواقع تعيد إنشاءه خياليّا , وهذه سمة من سمات حداثة الشّعر العربيّ . إنّها تخاطب الآخر بالخيال, تدعوه إلى فكّ علامات الغموض وتحليل الاستعارة ذهنيّا. فقد وجدتها اعتمدت في نصّ: غزليّات صورا إيحائيّة طريفة 

(غازل سرّك ..وأفضح موت البرتقال)

فقد خلّصت الشّاعرة مفهوم الغزل من بعده الكلاسيكيّ الذّي ألفناه في نصوص الشّعراء العشّاق أي التغزّل بمحاسن المرأة فدعت السّامع إلى التغزّل بالسرّ أي العالم المخفيّ فقد يكون فيه جمال مختلف لا تدركه العين ولا تطاله عاطفة عاشق . هنا المجاز يتحوّل إلى رمز وإشارة كما نصحته بفضح موت البرتقال وهنا نتبيّن لهجة تمرّد عصفت بالمألوف والمتعارف ذلك أنّ الشّاعر يقيم للموت مراسم رثاء تفجّعا وتأبينا وتعزية, إنّ الشّاعرة هنا خالفت المعنى القديم للموت ورغبت أن يفضح المتقبّل موت البرتقال اشارة إلى واقع مرير, يموت فيه البرتقال بما يوحي به من خصوبة , لذّة, وارتواء لأنّنا في زمن تعطّل فيه الاخضرار أصبحنا نشهد فيه موت البهاء والجمال وقيم العزّة والبذل , فمن قتل البرتقال, فرد, جماعة, منظومة , رصاص, وعد كاذب, حلم موؤود في مخاض الرّيح؟ الطّريف أن البرتقال أصبح ذا روح ماثل الإنسان.
يحضر المجاز بكثافة في نصوص نجاة عبد اللّه فهي شاعرة تميل إلى التّلميح والإيحاء باعتبارها تكتب تحت سلطة الخيال, يدبّ النّعاس في اللّيلك فتحضن المشاهد المتخيّلة , تلغي سلطة الواقع وتركّب مآثر الكلام وهي تحاور الأشياء , تصوّر الحالات تسرد الأحداث بلاغيّا كي لا تغفو الرّؤى :

وحدك هذا المساء
تجمع دموع الثّلج
ووحدك أيضا هذا المساء
تخدع دموع الثّلج

يبرز التّخييل هنا في إكساب الثّلج دموعا تنساب لتغطّي أديم الأرض وقمم الجبال في لجظة تعلن عن الغريب وقد مزجت بين الدّمع والماء إشارة إلى هذه القدرة الخارقة التّي يمتلكها رجل دموع الثّلج وهو يجمعها . وقد استطاعت الشّاعرة أن تصوّر هذا المشهد متأثرّة بطاقة انفعاليّة تعبيريّة.
كما نجد الصّورة الشعريّة القائمة على السّرد والقصّ فهل تكون نجاة عبد اللّه استعادت ملامح طفولتها مستدعية زمن الحكي والقصّ لدى العرب أو في بيئتها العراقيّة الثقافيّة الزّاخرة بموروث القصّ العجيب؟.

توفيّ..
محض ثعالب على النّافذة
ومازلت أرقب
جثّة الضّوء المكدّس على النّزول:
نصّ أميت الثّعالب لأفتديك

هي تعتمد السّرد تقنية رغبة في التقاط الأحداث الهاربة وتأسيس الفعل المبتكر.إنّ نجاة عبد اللّه لا تقف عند الحدث الواحد أو الصّورة العابرة فهي ذات قدرة إبداعيّة على التّلوين والتّجويد وجعل الحكي إنشادا نفسيّا. فالشّاعرة لا تنقل الأحداث كما جرت بل تعيد تشكيلها شعريّا فنيّا لتدعم البعد الماليّ في نصوصها. وهي التّي تتكلّم زمن النّعاس, تربكه لترممّ ما تداعى.
الخاتمة:
هذه هي نجاة عبد اللّه شاعرة تتقن كتابة الشّعر ورصف المعاني تعيد إنشاء الصّور ونسجها بطريقة مغايرة كشفت عن مهارة واقتدار وقد كانت فعلا إنسانة متشبّعة بأبعاد عاطفيّة , منتمية إلى فضاء رحبة أدركها خيال خصب وقريحة أخذت من كلّ شيء بطرف فهي تذهب إلى التّنويع واعية بأنّ الشّعر عواطف, أفكار وشعور إضافة إلى صناعة وهندسة وقد رامت أن تخاطب الإنسان محفّزة إياه على التحرّر من سلطة المألوف و الرّتابة مصوّرة له كونا شعريّا متعدّدا يمجّد الكلمة إيحاء ورمزا.


البشير الشّيحي: تونس



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق