العدد
التاسع لسنة 2015
القصة
القصيرة
تصفيق
..
بقلم
( محمد فتحي المقداد )
كنتُ أخالُ الوقت مُبكِّراً، الفراش دافئ،
تتلبد عينايَ بالنُعاس، جفنايَ أعياهما الوسَنُ محاولاتي المتكررة في فتحمهما باءت
كلها بالفشل، شيء ما هناك يقتحم سمعي رغماً عني، تصفيق مستمر مصدره الأولاد:
- يا ألله..!! منذ الصباح يعلنون أفراحهم،
ما الذي طرأ عليهم حتى يفعلوا هذا، وفرجهم الغامر بالتصفيق، أهناك مبررٌ لهم، ألا يعرفون
أنهم يزعجونني بأصواتهم ولهوهم؟ "، ما إن هدأت أصواتهم، حتى يكون والدتهم، وهي
تصفق بِكلتَيْ يديها، ظننتُ أنها مؤامرة على عليّ، كدتُ أنفجر، لولا أن جاءتً نبراتُ
صوتها الناعم :
- حبيبي الساعة تشير للحادية عشرة.
- أوه، تأخرتُ كثيراً ..!!، لقد فاتني
موعد مع صديق منذ ساعة كاملة.
- اتّصلْ به، لعلّهُ ما زال بانتظارك،
ولم يغادر مكان الموعد.
- سأفعل..، لكن برَبِّكِ، هل من سبب لكل
هذا التصفيق منك؟، ألا يكفي الأولاد.
- حبيبي، دخلتُ غرفة النوم، واجهتني ناموسة،
اقتربتْ من أنفي حتى أحسستُ بها، حاولت اصطيادها، لم أوفق في المحاولة الأولى، تابعتُها
في زوايا الغرفة، في المرة الخامسة أفلتت، حتى اضطررت للسادسة. - تعطيها ضحكة ساخرة
- .
- معذورةٌ في ذلك، لكن الأولاد ما بالهم
يفعلون ذلك، وما زلنا في أول النهار؟.
- أصابهم الطرب مع أغنية ( ديمه بشار
)، أنت تعرف إدمانهم على طيور الجنة، وطل أغانيها تجعلهم يتفاعلون معها بهوسٍ عجيب،
خاصة ( أنا البندورة الحمرا)، (يا بابا أسناني واوا )، ماذا أقول لك.. الله يعين قلبي
عليهم.
** *** **
نهضتُ مسرعاً، ارتديتُ ملابسي، دون تناول
الفطور،صخب الأولاد أسمعه بعد أن أغلقت باب البيت، وبقي يقرع سمعي إلى أن وصلتُ الطريق،
تابعتُ للوصول إلى موقف الباص، دقائق قليلة من الانتظار فقط، جاءت الحافلة، فما إن
قطعت مسافة موفقيْن، حتى جاء صوت تصفيق من شاب يجلس في الوسط، فهمتُ أنه ينبه السائق
بالتوقف عند نهاية الطريق، قبل انعطافه باتجاه اليمين.
** *** **
من حُسْن الحظ، أن يتأخر صديقي مثلي عن
الموعد، عندما قبالته في المكان المحدد بيننا، رأيتُ وجهه ممتقعاً، عيناهُ جاحظتان
شابتْ بياضهما حُمْرة، تخيلتُ أنه لم يغسل وجهه العابس، تبدو عليه آثار التعب و الإرهاق،
- طابَ صباحُكَ، أحمد.
- أيّ صباح .. و أي ليل .. وأي نومٍ تحكي
عنه، بتُّ البارحة في ليلة ليلاء، لن أنساها ما حييتُ، حرارةُ الجوِّ من جانب، وصخب
عرس جيراننا، الذي دام حتى ساعات الفجر الأولى، هجرني النوم، حاولت إغلاق الشبابيك،
وإسدالُ الستائر، وعجزتُ عن صدّ مستوى صوت المكبرات العالي.
جلسنا إلى طاولة منزوية هناك في زاوية
حديقة المقهى الصغيرة، يأتينا صوت التلفزيون من داخل الصالة المليئة بالمتفرجين، وهم
يتابعون مباراة فريقيْن من الدور الإسباني، تصفيق دائم من مشجعي كلّ فريق، ما إن يبدأ
هذا ليتوقف ذاك، وصفير لضربة موفقة، وصراخٌ على لاعب أضاع تسجيل هدف محقق، أنصار الفريقين،
لا يتوقفون عن التصفيق الذي صمّ أذني.
- آمنتُ بالله، على هذا اليوم، فتحتُ
عينيّ على التصفيق، وهاهو يستمر هنا، في المكان المفترض أن يكون هادئاً كما عرفناه
من قبل.
- لا عليكَ صديقي، ربما هي مصادفة نادرة.
** *** **
غادرنا المقهى، قاصدين مقهىً آخر في الجادة
الخلفيّة الهادئة، هذا المكان تجمع بالشعراء و الأدباء و المثقفين، هستيريا من التصفيق
الحادّ، من جموع تتابع على التلفزيون برنامج أمير الشعراء، لم تختلف المتابعة بين كرة
القدم و الشعر. الحماس قاسمٌ مشتركٌ بينهما، والتصفيق حكاية جديدة لم أعهدها قبل في
هذا المكان بالذات. حالة من الضجر انتابتنا، أنستنا موضوع لقائنا هذا المرتقب منذ زمان.
- أحمد : الهزيمة ثلثي المراجل، أشعر
بصداع نصفي، علينا مغادرة المكان بسرعة لا أستطيع المواصلة.
انطلقنا فراراً من المنطقة كلّها، إلى
مكان معروف بهدوئه في إحدى ضواحي المدينة الراقية، فوجئنا باعتصام جماهيري واسع، أمام
إحدى السفارات الأجنبية، احتجاجاً على دور بلادها الفاعل في التحالف الدولي ضد العراق،
وضد إرادة الشعوب العربية، أخيراً صوّت مندوبها في الأمم المتحدة إلى جانب دولة العدو،
على قرار يحول دون حق العودة للفلسطينيين.
شابٌ في مقدمة الحشود، يحمل ميكرفوناً،
من خلاله يلقي خطابه الملتهب في إثارة حماسة المعتصمين، ما إن يحاول التقاط أنفاسه
أو بلع ريقه، حتى ينطلق التصفيق و الهتافات المناوئة.
- لا أدري هل السفير يسمع، قلت لصديقي
أحمد.
- أحمد : أصلاً السفير مسافر منذ أيام
للتشاور مع أعضاء حكومته للتشاور في مجريات الوضع الجديد.
نسينا أنفسنا، عندما انخرطنا في حُمّى
الخطابات، وقد اجتاحتنا دوّامة التصفيق، التهبت أكفنا احمراراً، و تنميلاً، نوبة الحماس
تأججت فينا، عادتْ بنا إلى صلب قضية كادت تُنتسى من أذهاننا.
انفضّ المعتصمون، وتفرقت الجماهير إلى
شؤونها وهي تصفق..
لازمتني وصديقي الحالة، سرنا، و ابتعدنا
عن المكان، ونحن نصفق ..
العابرون بسياراتهم تعلو وجوههم معالم
الدهشة.. و الضحك من آخرين يجلسون على الرصيف ..
اجتزنا الساحة في نهاية الطريق، دخلنا
في شارع، أيضاً اصطدمنا بجموع تحتشد في عرس شاب في المنطقة.. ما زلنا نصفق.. رغم أن
الجهد أتعبني.. وكلّ جسمي وأخذ الجوع مني كل مأخذ، وليس باستطاعتي مع صديقي أن نتوقف
عن التصفيق.
** *** **
افترقنا على أمل لقاء قريب عاجل، في يوم
هادئ، ليلاُ، استفاقت زوجتي مذعورة، على صوت تصفيقي، كفايّ تشتغلان أثناء نومي، حاولت
إيقافهما، فلم تفلح أبداً، حاولت إيقاظي، أخيراً أعلنت عجزها .. دموعها تنهمر .. و
انخرطت في التصفيق معي، استيقظت مزعوجاً من تصرفها هذا، خاصة بعد منتصف الليل.
24 \ 8 \ 2015
عمّان \ الأردن
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق