العدد
التاسع لسنة 2015
أبحاث
ودراسات
السردية
التعبيرية و اسلوبياتها
د أنور
غني الموسوي
1- ابعاد النص و القراءة التعبيرية
للنص الادبي ابعاد ثلاثة ، فاضافة الى بعده الكتابي البنائي
كنص بمفردات و جمل و فقرات متجاورة ، فان له بعدا ابداعيا اسلوبيا يتمثل بالفنية و
الجمالية و الرسالية ، و له ايضا بعد لغوي دلالي يتمثل بتجلّي اللغة و النص و المؤلف
و القارئ . ما يحصل اثناء الكتابة هو تقاطع خطوط هذه الابعاد و تقابلها و تلاقيها في
النهاية في نقاط تعبيرية . بينما يكون تتبع عناصر البعد الابداعي الاسلوبي هو من القراءة
الاسلوبية ، و تتبع عناصر البعد اللغوي الدلالي هو من القراءة الدلالية اللغوية ، فان
تتبع نقاط تلاقيهما التعبيرية يكون بالقراءة التعبيرية بادوات النقد التعبيري . و من
هنا يتجلى الفرق الواضح واصالة النقد التعبيري و تميزه عن الابحاث الدلالية و الاسلوبية
و ان كانت جزء منه و مستفيدا من ادواتهما .
و من هنا ايضا يظهر ان التصور السائد كون النص كيانا زمانيا
ترتب عناصره في الزمن لا يتسم بالواقعية ، بل ان النص كيان ثلاثي الابعاد ، بعد كتابي
نصي و بعد لغوي دلالي و بعد اسلوبي ابداعي . يعتمد وضوح و تجلي هذا الشكل على مدى ظهور
و قوة نقاط ابعاده المتقدمة اثناء القراءة .
حينما تحدث عملية القراءة فانها تتطور من مستوى المفردة الى
مستوى الاسناد او التجاور المفرداتي الى مستوى الجملة الى مستوى الفقرة ثم الى مستوى
النص بكله . اثناء كل مستوى يحضر البعد اللغوي الدلالي و البعد الابداعي الاسلوبي ،
و بمجموع ما يتم من انظمة احتكاك و تقابل و التقاء و تقاطع و بفعل مستوى النقطة التعبيرية
لكل بعد تحصل في الفكر و النفس مواضع تعبيرية لكل وحدة كتابية فيه يقابله بعد رابع
خاص بالقارئ هو البعد الشعوري و الاستجابة الجمالية ، بعبارة اخرى بينما يكون النص
ككيان مكتوب شكلا ثلاثي الابعاد ساكن لا حراك فيه ، فانه ككيان مقروء يكون كيانا متحركا
له اربعة ابعاد البعد الرابع هو البعد الشعوري ويمثل بعد الحركة الذي يخرج النص من
السكون . فتكون القراءة هي العملية التي تعطي للنص روحا و تخرجه من الموت الى الحياة
، وهذا ما نسميه ( حركة النص )
القراءة ما هي الا عملية مشاهدة و تلقي تبحر فيها النفس في
عوالم النص و الكتابة ،و الفكر و اللغة ، و الخيال و الابداع ، و الشعور و المتعة
. هذه العوالم الاربعة الحاضرة دوما في الكتابة الابداعية هي التي تضرب في عمق النفس
و تجعل الكتابة الادبية مميزة ، و بمقدار تجلي عناصر و اشياء تلك العوالم و تلك الابعاد
يتحدد وقع القراءة و مقدارها التعبيري . النقد التعبيري هو المجال الذي يبحث الانظمة
المتحققة من تفاعل تلك الابعاد و ما ينتج عنها من مواضع و قيم تعبيرية في فضاء الكتابة
و عوالمها . ان التشخيص الدقيق و عالي الكفاءة للبعد الجمالي للكتابة بواسطة ادوات
النقد التعبيري و تحديد المقادير الكمية و التشكلات الكيفية للبعد الجمالي للنص يمكن
من تشخيص عالي المستوى لقيم النصوص جماليا مما يعد مدخلا علميا للظاهرة الجمالية و
الاستجابة الشعورية تجاه الجمال .
تعتمد التعبيرية في اللغة على التوظيفات في ثلاث مستويات
كما بيناه سابقا في مقالاتنا ، مستوى النص كقول و كتركيب لفظي معنوي ، و مستوى التجربة
كعالم من المعاني و الحقول الفكرية المعنوية ، و المستوى الوسيط الرابط ينهما ، فبينما
الجمالية في عناصر النص التعبيرية تعتمد على انجازات فردية اسلوبية على مستوى المفردات
و التراكيب كوحدات كلامية ، فانّ عناصر الجمالية اللغوية في حقول المعنى الفكرية العميقة
و العامة تكمن في اشكال تمظهر و تجلّي لمناطق و افراد تلك الحقول ، و اما العنصر الوسيط
فهي عملية ذهنية رابطة تنتج عن عملية القراءة ، بمعنى اخر لدينا ثلاثة عوامل تنتج اللحظة
الجميلة و الادهاش المصاحب : عناصر كتابية نصية و عناصر التجربة العميقة و عناصر قراءاتية
و سيطة بالمعنى المتقدم ، هذا التناول هو شكل من اشكال النقد التعبيري ،و الذي بتجاوز
اخفاقات النقد الاسلوبي في منطقتي العناصر القراءاتية الوسيطة و عناصر التجربة اللغوية
العميقة .
2 - السردية التعبيرية
ان ما يقابل الشعر هو النثر و ليس السرد كما يعتقد البعض
،السرد يقابله التصوير ، و الشعر حينما يكتب بشكل نثر فانه بالنهاية سيكون شعرا ، و
المميز بين النثر و الشعر ليس الوزن كما هو معلوم ،و لا الصورة الشعرية و المجاز العالي
كما اثبتته قصيدة النثر السردية بالكتلة النثرية الواحدة ، انما المميز بينهما ان الشعر
يشتمل على السردية التعبيرية و لا يقصد الحكاية او التوصيل ، بينما النثر اما قصصي
حكائي يقصد الحكاية او توصيلي بشكل خطاب و رسالة. بمعنى اخر ان الفرق بين الشعر و القص
و اللذين يشتملان على السرد ، ان السرد في القصة حكائي قصصي يقصد الحكاية و الوصف ولو
خيالا ،بينما السرد في الشعر تعبيري هو سرد لا بقصد السرد هو السرد الذي يمانع و يقاوم
السرد ،انه السرد بقصد الايحاء و الرمز ونقل العاطفة و الاحساس لا الحكاية و الوصف.
السرد لا بقصد السرد ، السرد الممانع للسرد ، السرد لا بقصد
الحكاية و القصّ ، السرد بقصد الايحاء و الرمز و نقل الاحساس و العاطفة ، هذه هي (
السردية التعبيرية ) .
مظاهر السرد التعبيري و الذي يكون القصد منه ليس الحكاية
و الوصف و بناء الحدث ، و انما القصد الايحاء و نقل الاحساس ، و تعمد الابهار ، فيكون
تجل لعوالم الشعور الاحساس بمعنى اخر ( ان الميزة الأهم للشعر السردي الذي يميزه عن
النثر وان كان شعريا هو التعبيرية في السرد ، فبينما في النثر السردي يكون السرد لأجل
السرد و الحكاية ، فانه في الشعر السردي يكون موظفا لأجل تعظيم طاقات اللغة التعبيرية.
) ( انور الموسوي 215)
3- اللغة المتموجة و وقعنة الخيال
جمال الأدب يكمن في طريقة التعبير و أسلوب الدلالة ، و لكل
تعبير أدبي قدرة معينة على الكشف عن جماليات بدرجات مختلفة ، هذه هي المرتكزات الاساسية
للنقد التعبيري ، اي البحث الواسع في اسلوب التعبير الادبي ، و لا بد من الاشارة انه
لا علاقة للنقد التعبيري بالمدرسة التعبيرية و انما هو منهج اسلوبي موسع . مما تقدم
من اهمية طريقة التعبير و الدلالة و تدرج تجلي عناصر الجمال تتبين قلة الاهمية في مبحث
المداليل كهدف اساسي لأنه لا يعين المكمن الحقيقي للجمالية الادبية و ايضا تتبين لا
واقعية فكرة الوجود التام و الفقدان التام لحقيقة الوجود الدرجاتي للعناصر الجمالية
في العمل الادبي .
ان الواقعية مهمة في كل معرفة تقريرية و النقد معرفة تقريرية
، و هذه الواقعية تحتاج الى عنصرين الوضوح و التجريبية ، فما لم يكن هناك وضوح و ما
لم يكن هناك قدرة على الاستقراء و التجريب فانه لا مجال لبلوغ الواقعية في النقد ،
ولا تدخل الكتابة حيز الجدية و العطاء . ان النقد التعبيري ، بتركيزه على اسلوب التعبير
و النظرة الواسعة الى العنصر الادبي ، و الانطلاق من امور بينة كالتعبير و الاستجابة
الجماليات و المؤثرات الجمالية من معادلات و عوامل جمالية ، كل ذلك يعطي للنقد التعبيري
درجة عالية من الوضوح و التجريبية و الاستقرائية .
وفق مفاهيم النقد التعبيري فان القراءة في جوهرها اندماج
و عيش في النص ، و اذا لم يكن النص مقنعا فانه لا تتحقق هذه الغاية . على النص ان يحمل
القارئ اليه و ان يجعله يعيشه ، و لا يقال ان المجاز العالي يعرقل ذلك ، بل العكس صحيح
انما المجاز هو وسيلة لتعظيم طاقة اللغة و النص و اعطائه قدرة اكبر على التأثير و التقريب
من نفس المتلقي .
الفنون الأدبية تعتمد الخيال في بناءها ، ليس فقط في ما ترمي
اليه من معان ودلالات وانما في طريقة التعبير ، و ما الانزياح الا شكل من اشكال التعبير
بوساطة الخيال ، اذ ان العلاقة الانزياحية خيالية كما هو حال المجاز ، اذ ريب ان هناك
لاألفة بين المجاز و ذهن القارئ ، لذلك لا بد على النص ان يطرح مجازه بشكل واقعي ،
طرح المجاز وهو علاقة خيالية بصورة واقعية هو ( وقعنة الخيال ) ، و وقنعة اشتققناها
من كلمة واقعي ، و يمكن وصف حالة تحقيق الألفة لللاألفة التي يتميز بها الخيال التعبيري
بانها حالة وقعنة له ، فالخيال المجازي في علوه و بعده و لاألفته الذهنية حينما ينجح
المؤلف في تقريبه و الباسه ثوب الواقعية و الحقيقية فانه يكون طرحه بصورة واقعية وحقيقية
.
ان اللغة المتموجة التي توفرها السردية التعبيرية ، و التي
تتناوب بين مفردات و تراكيب توصيلية و اخرى مجازية انزياحية ، يعطيها ميزة لا تتوفر
في الشكلين الاخرين من الكتابة ، اقصد السردية القصصية و الشعرية التصويرية ، فالاولى
ليس لها الا ان توغل في التداولية و التوصيلية وتخفّض من مجازها و الثانية ليس لها
الا ان تتعالى في المجاز . و لا يظن ان ذلك مختص بالبناء الشكلي اللفظي للنص بل انه
ينفذ عميقا الى الجذور المعنوية و الدلالية و الفكرية له ، اذ ان الكتابة في كل واحد
من تلك الاشكال تتصف بتلك الفوارق في كل مستوى من مستوياتها المختلفة .
لطالما تحدثنا عن لغة قوية تصل و تنفذ الى اعماق النفس الانسانية
و في الوقت نفسه تحافظ على فنيتها العالية ، و يمكن ان نرى بوضوح ان السردية التعبيرية
تحقق هذه الغاية فانها تخضع المجاز و الانزياح باي درجة كان الى الواقعية و الحقيقية
و القرب ، انها جمع حر بين الالفة و اللاألفة انها جعل الشيء غير الأليف أليفا . و
ربما لا احد يستطيع ان يقلل من قيمة الاسلوب الذي يتمكن بحرية و سلالة ان يجعل غير
المألوف مألوفا ، السردية التعبيرية بكل حرية و سلالة تحقق ذلك .
ان التعبيرية المتموجة بين الواقعية و الخيالية في بناء نصوص
السرد التعبيرية تحقق اللغة التي تنفذ الى الاعماق مع المحافظة على فنيتها العالية
. و من الواضح ان الفهم و التصور الذي يقدم النقد التعبيري عن العناصر التي يشير اليها
كما في الخيال المجازي هنا و وقعنته و تحقيق السردية التعبيري لتجليات عالية له و التموج
التعبيري ، يمثل درجات عالية من الجدية و الواقعية في منهج النقد التعبيري بادواته
الاسلوبية التعبيرية . كما ان وضوح عدم امكانية بلوغ مثل تلك الدرجات من الظهور و التجلي
لحالة وقعنة الخيال في الشعر التصويري و السرد القصصي ، لضعف تجلي التموج التعبيري
فيها يدل بلا ريب على التجريبية العالية و الاستقرائية البينة في النقد التعبيرية ،
مما يمثل بابا واسعا و حقيقيا نحو بناء علمي للنقد الادبي .
4- التوافق النثروشعري
المعهود من الكتابة الأدبية ليس فقط التمييز بين الشعر و
النثر ، بل رسوخ فكرة تضادهما فالكتابة التي تميل الى الشعرية و توظف تقنيات الشعر
تضعف فيها النثرية ، و هكذا العكس في الكتابة التي تميل الى النثرية و توظف تقنياتها
فان الشعرية تضعف فيها . هذا التضاد و التناسب العكسي بين الشعر و النثر هو المعروف
و الراسخ في الكتابة لمئات السنين ، و لقد مثل الشعر الصوري المعهود النموذج الاوضح
لهذه الظاهرة ، اذ كلما تعالى النص في شعريته ابتعد و نأى عن النثرية وهذا ما لا يحتاج
الى مزيد بيان .
لكن الذي يبدو و كما بيناه في مقالنا ( اللغة المتموجة و
التوافق النثروشعري ) ان هذا التضاد ليس ناتجا عن امر ذاتي و اساسي في نظام الشعر و
النثر ، بل هو نتاج اسلوب الكتابة و الفكر السائد عنها . اذ قد بينت نصوص السردية التعبيرية
، وهو السرد الممانع للسرد و السرد لا بقصد السرد ان حالة التوافق بين الشعر و النثر
ممكنة و واقعية ، و ان التناسب الطردي و التكامل بينهما ايضا ممكن و واقع .
ان السردية التعبيرية بسعيها نحو الغاية القصوى لقصيدة النثر
في تحقيق الشعر الكامل بالنثر الكامل و تحقيق حالة الشعر المنبثق من وسط النثر ، وفرت
الامكانية و القدرة على تحقيق نظام ( التوافق النثروشعري ) . و لا بد من التأكيد ان
فكرة التوافق بين الشعر و النثر و لا ذاتية تضادهما هو نتاج اصيل و مستقل للسردية التعبيرية
و غير مسبوقة في هذا الفهم و ان كان تلمس اشكال من تجليات نظام التوافق النثروشعري
في سرديات تعبيرية عالية كالقران الكريم و ملحمة جلجامش .
هنا سنتعرض الى ملامح التضاد النثروشعري و نظام التوافق النثروشعري
في نصوص من الشعر الصوري المعتمد على الصورة الشعرية و من الشعر السردي المعتمد على
السردية التعبيرية للشاعر العراقي حسن المهدي الذي يكتب الشكلين الشعريين .
لقد وفرت السردية التعبيرية امكانيات كبيرة للنص لبلوغ هذه
الغاية و تحقيق هذه اللغة ، اذ ان السرد يتطلب و بشكل قاهر عذوبة و قربا و سلاسة تحقق
الفة للقارئ ، و تحقق التعبيرية ابحارا و صعودا و تحليقا و تعمقا يحقق الادهاش و الابهار
الشعري. و من الجدير بالذكر ان اية سردية تعبيرية مستوفية لشروطها تحقق هذه الغاية
، لكن نصوص السرد التعبيري تتباين في مستوى النفوذ و الابهار ، اذ ان اسلوب الكاتب
و قاموسه اللفظي و ميله التعبيري و البنائي يحدد درجة الميل نحو النثرية و انخفاض الشعرية
او ميله نحو الشعرية و انخفاض النثرية. وهذا الميل ليس لحقيقة التضاد بين النثر و الشعر
في النص السردي التعبيري ، و انما هو بفعل معالجة المؤلف و طاقاته التعبيرية ، فانه
في قبال هذه الصورة يمكن تحقق التصاعد التناسبي الطردي بالنثرية و الشعرية في السرد
التعبيري ، اي تحقيق درجات تصاعدية في كلا الجانبين في وقت واحد . وهذه الحالة التي
يتحقق فيها علو فني لشعرية النص و نثريته في آن واحد يمكن ان نسميها (التوافق النثروشعري)
وهي الحالة الفريدة و الوحيدة ربما التي يتحقق فيها تطور و تجل اكبر للنثر مصاحبا و
ملازما لتطور وتجل اكبر للشعر ، فمع كل درجة شعرية اعلى يحققها الشعر تتحقق معه درجة
نثرية اعلى للنثر .وهذا بخلاف حالة التنافر و التضاد بينهما في الكتابات الاخر و منها
الشعر الصوري المعهود اذ ان حالة ( التضاد النثروشعري ) هي السائد بحيث ان كل تقدم
و ميل نحو الشعرية في النص يقابله نقصان و تراجع في نثريته وهكذا العكس .
من اوضح الاساليب التي تحقق حالة التوافق النثروشعري هي اللغة
التي تتموج بين القرب و التوصيل و بين الرمز و الايحاء ، و بين التجلي و التعبير ،
هذه اللغة هي اللغة المتموجة بين التوصيل و الايحاء والتجلي ، بين المنطقية الانحرافية
التركيبية اي بين واقعية الاسناد اللفظي و بناءاته و بين خياليته ولاالفته فتحصل حالة
(وقعنة الخيال ) اي اظهار الخيال بلباس واقعي مما يعطي النص عذوبة و قربا و الفة و
يزيل عنه اية حالة جفاء او جفاف او اغتراب يطرا عليه بفعل الرمزية و الايحائية. ان
السردية التعبيرية باللغة المتموجة تبلغ درجات متقدمة من التوافق النثروشعري ، و تصل
ساحة الشعر الكامل بالنثر الكامل .
للغة المتموجة اشكال و درجات بحسب قوة الخيال و الشعرية ،
و سنورد هنا ثلاثة نصوص لنا مكتوبة بلغة متموجة تتباين في درجات شعريتها و سرديتها
و نلاحظ كيف ان التوافق النثروشعري يتجلى بوضوح في السردية التعبيرية المكتوية بلغة
متموجة .
5- اللغة الحرة و النص الحر
ان اللغة الحرة و النصوص الحرة العابرة للاجناس و التي ستكون
و بلا شك الشكل المستقبلي للادب لن تاخذ شرعيتها بسهولة و بفترة قصيرة لأمور كثيرة
اهمها تجاوزها الاجناس الادبية و تحطيمها لأعراف سائدة في اللغة و الادب . لقد بقي
الادب يعاني من سطوة الناشر فكان يفارق رغبة المؤلف و رغبة القارئ لاجل ان يعجب الناشر
فاهدر الكثير من الوقت و الجهد لتلبية تلك الارادات اللافنية و اللاعلمية ،اما الآن
و بفضل النشر الالكتروني و امكانية النشر بشكل حر و تحرر مواقع نشر كثيرة من تلك الافكار
، صار الوقت مناسبا لظهور الادب الحر و اللغة الحرة و النص الحر العابر للاجناس ،فلا
يكون امام عين القارئ سوى ما يريد ان يقوله و لا شيء سوى اللغة التي يريد استعمالها
،من دون وصاية لا فكرية و لا موضوعية و لا سلوبية ، بلا و لا ادبية فالمهم الكتابة
و لا يهم ما جنسها و ما تصنيفها ، و الجمهور هو الحكم. لقد انتهى عصر الوصاية الادبية
و بدا عصر الادب الحر و اللغة الحرة.
لقد اثبتت الكتابات الأدبية في العشرين سنة الأخيرة انه لا
اهمية تذكر لتجنيس النصوص ، و صارت الكتابات الأدبية تتداخل حتى انها تصل الى حد لا
يمكن تصينف النص الى جنس ادبي معين و يختلف في تجنيسه ، ممل مهّد لظهور النص الحر العابر
للاجناس . و السردية التعبيرية بامكانتها الواسعة يمكن ان تكون البوابة الواسعة نحو
النص الحر . و لا بد من تأكيد الفرق بين النص الحر العابر لاجناس الادببية و بين القصيدة
الحرة ، التي تعتمد نمطيات و تقنيات الشعر الصوري . نعم النص الحر قريب جدا من قصيدة
النثر ، الا انه ليس قصيدة نثر حرة ، بل هو نص ، قد يراه البعض شعرا و البعض قصة و
البعض خاطرة و الاخر رسالة ، ان النص الحر يحرر المؤلف و القارئ و يحرر نفسه .
6- اللغة التجريدية
التجريدية في التعبير و اللغة هو استعما اللغة في نقل الاحساس
و الشعور و ليس الحكاية ، فتتخلى الالفاظ عن وظيفة نقل المعنى الى نقل الاحساس المصاحب
له كمركز للتعبير ، فيرى القارئ الاحاسيس و المشاعر المنقولة اكثر مما يرى المعاني
.
و انطلاقا من فكرة انّ الابداع اللغوي و خصوصا الشعر لا يتجه
بالأساس نحو البناء المعرفي و المفاهيم ، و انّ محور الابداع هو عالم المعنى و الشعور
و الاحساس ، فاننا يمكن فهم اللغة التجريدية بانها اتجاه عميق نحو صور خالصة و مجردة
وكلية لموضوعات الادب و عوالم الجمال و الشعور و الاحساس و المعنى ، التي تعصف بنفس
الشاعر و تلهمه ، و تختلف هذه التعبيرية بشكل واضح عما يتجه نحو الجزئي من تجرية و
جماليات و موضوعات قريبة ، و ينعكس ذلك بشكل ملحوظ على لغة التعبير لان خصوصية الموضوع
لها تاثيرها الحاسم في شكل اللغة التي تتحدث عنه ، فبينما الجلاء و الوضوح و القرب
و الاحتفاء و المجاز التعبيري وحتى الرمزية الموظفة من سمات اللغة المعبرة عن التصورات
الجزئية لموضوعات الابداع و الجمال الجزئية بلغة تعبيرية جزئية تشخصية ، فان التجسيد
الخالص ، و التصورات الكلية و الرمزية المبتكرة و التحليق الحر و العمق البعيد من سمات
اللغة التي تتجسد فيها التصورات الكلية لموضوعات الابداع و الجمال الكلية بلغة تعبيرية
كلية تجريدية .
لا بد من القول و بشكل حاسم و واضح ان الانطلاق بالكتابة
من العوالم العميقة و الكلية للمعنى و الشعور لا يكفي لتحقيق التجريد ، بل لا بد من
ان يظهر اثر ذلك في اللغة ايضا ، و لا تكفي الرمزية مع توظيفها و حكايتها و وصفيتها
، بلا لا بد ان تكون في وضع الاشعاع و التوهج المرئي بدل الحكاية .
بالاضافة الى عناصر الابداع من الفنية و الجمالية و الرسالية
التي يجب توفّرها في العمل الشعري الناضج ، لا بدّ ان تتصف اللغة التجريدية بصفات محددة
اهمّها ان تكون تعبيرا عن عالم عميق للمعاني و الاحاسيس ، بوجوداتها الخالصة الحرة
، البعيدة عن التشكل و القصد ، ببوح كلي و كوني و انساني عميق ، بمفردات و تراكيب لا
ترى فيها الا تجليات و تجسيدات لتلك العوالم و عناصرها من خفوت شديد للقول و الحكاية
و التوصيل ، بلغة تشع و لا تقول . حينها نكون امام لغة تجريدية لغة الاشعاع
التي تتجاوز
مجال القول و التشخّص .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق